موت سخي- رثاء لصديق في زمن الجنائز الفضائية
المؤلف: عبده خال09.05.2025

إن الموت، في هذه الحقبة الزمنية، يتدفق بوفرة وجود.
لقد انقضت أيام وأنا حبيس بين المحطات الفضائية المتدفقة، التي تلقي بالجثامين إلى مثواها الأخير دون أدنى مراسم توديع لائقة.
إن الاعتياد على رؤية صور الموت المتكررة يصيب الروح بالجمود والتبلد، وفي غضون الأيام المنصرمة، تقلصت حركتي، وأصبحت أسيرًا للقنوات الفضائية التي تنشر أنباء الوفيات بالجملة. الموت يتبع الموت، حتى أن شغفي بالقراءة قد خبا وتلاشى، ولم تعد الأفلام قادرة على اجتذابي إلى عوالم سينمائية موازية؛ تلك العوالم الإبداعية القادرة على تجسيد حياة زاخرة بالمنافذ المتعددة. فمشاهدة فيلم جيد تمنح المرء إدراكًا عميقًا بجوهر اللحظة. ولكن، بما أن التيار العام في السينما يحتفي بأفلام الرعب والعنف، فإن ذلك لا يزيد المرء إلا تبلدًا فوق تبلده. ربما كانت أفلام الأبيض والأسود تجلب شيئًا من السكينة والهدوء للنفس، فلجأت إلى عوالمها. ومع ذلك، كانت الأحداث الفضائية الملتهبة تصيبني بلسعة من التنبيه الحاد، خاصة عندما أرى أحدهم يسقط ميتًا في لحظة. وبما أن القنوات الفضائية تصب الموت صبًا، فقد قل الاكتراث، وتهون عليك الفجيعة، أو أن تعتبر أولئك الذين تراهم موتى لا تربطك بهم صلة سوى الإنسانية المنتهكة.
كنت قابعًا في خلوتي، في مكتبي، ومن خلال شقوق عزلتي، تتسرب أنباء الأصدقاء أو المعارف، تحمل أخبار رحيلهم عن هذه الدنيا الفانية. ولأنني لا أستحسن طقوس التعزية، مكتفيًا بالرضا العميق، والاقتناع الراسخ بأن من رحل سيظل حيًا في داخلي، وأن الأماكن هي فقط ما يفصلنا. ولكي لا أؤكد حقيقة رحيله، لا أقدم التعازي لذويه، وهو سلوك يبدو قاسيًا على نفسي، وعلى من يعرف عمق علاقتي بالمتوفى. إنه لمن المؤلم حقًا أن تعزي فيمن كان نبضك يتماهى مع نبضه.
عشية البارحة، ومن خلال ثغرات عزلتي، تسرب إلي نبأ وفاة الشاعر الصديق موسى محرق. لقد كان خبرًا مدويًا، مفزعًا، ليس بسبب رحيل موسى، فكلنا إلى زوال، وإنما كان موته محركًا لذكريات حميمة جمعت بيننا نحن الثلاثة (حمود أبو طالب، وموسى محرق، وأنا). انطلق الحديث عن العمر، وعن سرعة انقضائه، معتبرين أن العمر، حتى لو امتد لمائة عام، فهو قصير، وقصير جدًا. ثم فتحنا آفاق رغباتنا الجامحة في إطالة العمر، كحد يشبع نهم أنفسنا للبقاء على ظهر هذه البسيطة. واستحضرنا مثال دعوة نوح عليه السلام وعمره المديد. واختار كل منا عمرًا يرتضيه ليعيشه في هذه الحياة الدنيا. كنت أنا وموسى قد اتفقنا على أن العمر الملائم هو ثلاثمائة عام، وإن كان يبدو طويلًا، فليكن مائتين وخمسين عامًا. وأقنعنا حمود بهذا العمر. كنا نتبادل الضحكات، فمع كل اختيار جديد، كنا نعيد صياغة حياتنا، وفقًا للعمر الجديد الذي اقتنعنا به. وعندما سمعت بوفاة موسى، عدت إلى تلك الحسابات. لم يمكث موسى سوى خمسين عامًا، وقد تبقى له مائتا عام وفقًا لرغبته التي أطلقها في ذلك الاجتماع الذي تميز بالضحك وتبادل الرغبات والأحلام والتطلعات، وذلك لأننا ما زلنا في بداية أعمارنا الجديدة. رحل موسى فجأة، آه، لقد فاض الموت في هذه الأيام بسخاء بالغ، فغرق موسى مع من غرق، وقد رأيته يُشيع في كل القنوات، مكفنًا بكفن لم أتبين لونه. رحمك الله يا موسى، وأسكنك فسيح جناته.
لقد انقضت أيام وأنا حبيس بين المحطات الفضائية المتدفقة، التي تلقي بالجثامين إلى مثواها الأخير دون أدنى مراسم توديع لائقة.
إن الاعتياد على رؤية صور الموت المتكررة يصيب الروح بالجمود والتبلد، وفي غضون الأيام المنصرمة، تقلصت حركتي، وأصبحت أسيرًا للقنوات الفضائية التي تنشر أنباء الوفيات بالجملة. الموت يتبع الموت، حتى أن شغفي بالقراءة قد خبا وتلاشى، ولم تعد الأفلام قادرة على اجتذابي إلى عوالم سينمائية موازية؛ تلك العوالم الإبداعية القادرة على تجسيد حياة زاخرة بالمنافذ المتعددة. فمشاهدة فيلم جيد تمنح المرء إدراكًا عميقًا بجوهر اللحظة. ولكن، بما أن التيار العام في السينما يحتفي بأفلام الرعب والعنف، فإن ذلك لا يزيد المرء إلا تبلدًا فوق تبلده. ربما كانت أفلام الأبيض والأسود تجلب شيئًا من السكينة والهدوء للنفس، فلجأت إلى عوالمها. ومع ذلك، كانت الأحداث الفضائية الملتهبة تصيبني بلسعة من التنبيه الحاد، خاصة عندما أرى أحدهم يسقط ميتًا في لحظة. وبما أن القنوات الفضائية تصب الموت صبًا، فقد قل الاكتراث، وتهون عليك الفجيعة، أو أن تعتبر أولئك الذين تراهم موتى لا تربطك بهم صلة سوى الإنسانية المنتهكة.
كنت قابعًا في خلوتي، في مكتبي، ومن خلال شقوق عزلتي، تتسرب أنباء الأصدقاء أو المعارف، تحمل أخبار رحيلهم عن هذه الدنيا الفانية. ولأنني لا أستحسن طقوس التعزية، مكتفيًا بالرضا العميق، والاقتناع الراسخ بأن من رحل سيظل حيًا في داخلي، وأن الأماكن هي فقط ما يفصلنا. ولكي لا أؤكد حقيقة رحيله، لا أقدم التعازي لذويه، وهو سلوك يبدو قاسيًا على نفسي، وعلى من يعرف عمق علاقتي بالمتوفى. إنه لمن المؤلم حقًا أن تعزي فيمن كان نبضك يتماهى مع نبضه.
عشية البارحة، ومن خلال ثغرات عزلتي، تسرب إلي نبأ وفاة الشاعر الصديق موسى محرق. لقد كان خبرًا مدويًا، مفزعًا، ليس بسبب رحيل موسى، فكلنا إلى زوال، وإنما كان موته محركًا لذكريات حميمة جمعت بيننا نحن الثلاثة (حمود أبو طالب، وموسى محرق، وأنا). انطلق الحديث عن العمر، وعن سرعة انقضائه، معتبرين أن العمر، حتى لو امتد لمائة عام، فهو قصير، وقصير جدًا. ثم فتحنا آفاق رغباتنا الجامحة في إطالة العمر، كحد يشبع نهم أنفسنا للبقاء على ظهر هذه البسيطة. واستحضرنا مثال دعوة نوح عليه السلام وعمره المديد. واختار كل منا عمرًا يرتضيه ليعيشه في هذه الحياة الدنيا. كنت أنا وموسى قد اتفقنا على أن العمر الملائم هو ثلاثمائة عام، وإن كان يبدو طويلًا، فليكن مائتين وخمسين عامًا. وأقنعنا حمود بهذا العمر. كنا نتبادل الضحكات، فمع كل اختيار جديد، كنا نعيد صياغة حياتنا، وفقًا للعمر الجديد الذي اقتنعنا به. وعندما سمعت بوفاة موسى، عدت إلى تلك الحسابات. لم يمكث موسى سوى خمسين عامًا، وقد تبقى له مائتا عام وفقًا لرغبته التي أطلقها في ذلك الاجتماع الذي تميز بالضحك وتبادل الرغبات والأحلام والتطلعات، وذلك لأننا ما زلنا في بداية أعمارنا الجديدة. رحل موسى فجأة، آه، لقد فاض الموت في هذه الأيام بسخاء بالغ، فغرق موسى مع من غرق، وقد رأيته يُشيع في كل القنوات، مكفنًا بكفن لم أتبين لونه. رحمك الله يا موسى، وأسكنك فسيح جناته.